الشاعر عمار مكي في حديث عن شعر الطمبور لـ(نجوع ):

أغنية الطمبور لم تعانِ من محدودية الإنتشار ولكن..
الآلات الوترية الشعبية تقتبس موسيقاها من عمق الطبيعة المجردة ..
التعبير الكتابي يتأتى في شكل مخاض يتم ترجمته ليتبلور في صورة القصيدة النهائية..
حوار : هادية قاسم
الشاعر عمار مكي الرشيد المكي من الولاية الشمالية مدينة الدبة ( محلية التضامن) نشأ في قرية الكلد و يقيم بالخرطوم حيث أكمل كل المراحل الدراسية حتي توقفت رحلة التأهيل الأكاديمي مؤقتاً بمحطة ماجستير الإعلام من جامعة إفريقيا . يجيد كتابة الشعر الشعبي أو ما يعرف بشعر الطمبور فهو صاحب صوت إبداعي جهور داخل المنتديات الثقافية ، (نجوع) أجرت معه حواراً عن شعر الطمبور وقضاياها ومحاور أخرى أدناه :-
*ماهي دوافع الكتابة لديك؟
-دوافع الكتابة لدي ليست لها إرتباط وثيق بمستقبل القصيدة الغنائي ،فالخواطر الشعرية تقتادني للكتابة وفق الحالة الشجنية متجاوزةً الإخراج الصوتي للقصائد وأظن أن قصائدي تمثل جزءً من شخصيتي التعبيرية وقد تلامس إحساس أحدهم في مقبل الأيام علي الرغم من بعض القراءات التي تجد في أشعاري الحس الغنائي وهي سانحة لتحية الأستاذ عثمان عوض ضرار و هو كاتب مجيد ،دوماً ما يعقب على كتاباتي بأن الغنائية بها عالية و هذه إجازة أدبية من شاعر مدهش أحترم تجربته الشعرية جداً فهو كاتب يمتلك قاموس شعري فريد.
* أغنية الطمبور والتغيير الذي أحدثته في مجتمعاتنا سيما وأنها تناقش في مجملها كثير من القضايا الهامة؟
-الأغنية الشعبية في العموم هي الصوت الشعبوي الحقيقي الذي ينقل مشاعر وآمال وتطلعات الشعب، نسبةً للمضامين الجوهرية التي تبنتها القصائد الغنائية ،و مجتمع أغنية الطنبور تجمعه روابط مشتركة كجغرافيا المكان والبيئة والعادات والإهتمامات ، ومجتمع الطنبور يمثل جزءً مقدراً من هذا المجتمع الكلي وتداول هذا الفن وتعاطيه قطعاً سيؤثر بشكل مباشر وفق ما يتم تناوله من القضايا الإنسانية بشكل خاص وتجترني الذاكرة في هذه المناسبة للعودة لأشعار الراحل حميد فهي في المجمل تلامس المستضعفين والشرائح الأكثر حوجة ورائعته (العطالة) التي تغنى بها الاسطورة يس عبد العظيم تعتبر من أكثر المحطات أهميةً وكذلك قصيدة (بحر المودة) للكاتب الكبير السر عثمان الطيب وهي تصف حال الغربة وإنعكاسات التغرب علي المواطن السوداني وخلدت في أذهان السودانيين بصوت الاستاذ عبدالرحيم أرقي الذي جسد الصورة البيانية وعبر تقمصه لفكرة القصيدة كان الآداء مذهلاً ولا أظنني مخطئاً حين أقول أن بعضاً من الذين تغربوا لسنوات عادوا لأسرهم وديارهم بسبب هذه الأغنية وقصيدة (عافي منك) للشاعر علاء الدين أبسير تعتبر نقطة تحول في تاريخ الغناء للمجتمع متمثلاً في قدسية الأم وكثير من البيوت السودانية وجدت ضالتها الإنسانية في هكذا تناول و عبدالرحيم أرقي أجاد في توصيل إحساس الشاعر بتجسيد المعاني عبر آداء مؤثر وعميق.
* إلى ماذا يرجع الحزن الذي نلتمسه في أغنيات الطمبور أو الأغاني الشعبية ؟
-الحزن بالمفهوم العام حالة إنسانية تتملك البشر وفق ما يثير عواطفها ويجعل الموقف غير محتمل وأغنية الطنبور قطعاً لم تخرج عن الإطار الإنساني ،والتناول الموضوعي الذي يحرك الشجون بالتاكيد هو إحساس حقيقي وجد بيئةً خصبةً للعواطف ، ولكن المعني الإصطلاحي للحزن في أغنية الطنبور أعزيه لعدة عوامل أهمها على الإطلاق منطلقات الكتابة الإنسانية التي صنعت محتوىً أدبياً خالداً وعن جانب الموسيقى الشعبية والأثر الحزائني الذي تحدثه فهذا نعزيه لطبيعة آلة الطمبور الشعبية والآلات الوترية الشعبية تقتبس موسيقاها من عمق الطبيعة المجردة ،وهذا يتجلى في التأليف الموسيقى الذي يجسد الحزن في مقطوعات موسيقية موغلة في الحزن وفي أحايين كثيرة نشعر وكأنما أوتار الطمبور يتم استنطاقها وبتكنيك موسيقي موغل في التجسيد نذهل حينما يتم تطويع الأوتار و الإخراج يكون حروف موسيقية تتحدث رفقة آداء المطرب الصوتي.
*هل يمكن أن يُصنع الشعر صناعةً؟
-لا نستطيع صناعة الشعر كفكرة أو مضمون ولكن يمكن صياغة المفردات وفق القوالب الشعرية أي الاسترسال في الفكرة الأساسية لما تقتضية موازين القصيدة إن جاز الأمر إن لم نسمه صناعةً يمكن أن نسمية الصياغة في السياق الأدبي ،والتعبير الكتابي يتأتى في شكل مخاض يتم ترجمته عبر القلم ليتبلور في صورة القصيدة النهائية ولكن الشعر لا يصنع بل يتم إستشعار فكرته كإلهام ثم نسخ مضامينه عبر أدوات الكتابة التقليدية.
*أثر البيئة في أشعارك؟
-الإنسان إبن بيئته وجغرافيا المكان لها قيود تعبيرية كإنتقاء الألفاظ المحلية ،وإقتباس الصور البيانية من وحي المشاهد الواقعية ،وتجسيد الحياة الطبيعية بمرآة التعبير الكتابي ،وبالإنتقال لتجربة تأثير البيئة على الكاتب فلنرى ماذا كتب الأديب العالمي الطيب صالح الذي ذيع صيته في العالم الغربي بمحتواه الشعبي البسيط وقرية كرموكل بشمال السودان وجدت حيزاً كبيراً في روايات الأديب الطيب صالح في (عرس الزين) و(موسم الهجرة إلي الشمال) و في ذات المنحى بتناول تجربة الشاعر (حميد) أكاد أجزم بأن أشعار حميد بالمجمل هي نتاج التأثر بالبيئة المحيطة وحميد ذهب لأبعد من ذلك وأبدع في الشعر القصصي كقصيدة (حمتو) و(ست الدار) و(نورة).
*هل تعاني أغنيات الطمبور من عدم تواصل الأجيال؟
-التواصل بمستواه الفني موجود وإن كان غير منتظم ولكن ليس بالقدر الكافي الذي يعزز من فرصة تلاقح التجارب الفنية والإستفادة من خبرات الرعيل الأول ،ولكن أهم الأسباب على الإطلاق هو غياب جسم مؤسسي يرعي هذه المتطلبات كنادي الطمبور ،فالبعد عن المؤسسية جعل فرصة تواصل الأجيال مرتبطة بالفروق الفردية والتواصل المقيد أحدث فجوةً مؤقتةً من شأنها أن تبعد جيل عن الآخر ،ولكن هذه الفجوة الإجتماعية ناهضتها فعاليات المنتديات الثقافية وهذه الملتقيات الفنية تجتمع عندها كل الأسماء الفنية ومسارح الآداء جعلت المواجهة مستمرة ولكنها موسمية.
*هل من مشاكل وتحديات تواجه شعراء الطمبور تحديداً؟
-لا أعتقد أن مجتمع الطمبور له شعراء مخصصين كلفظ مطلق وإنما هو فن شعبي يفتح أبوابه للجميع وأكبر دليل تجربة التعامل المشترك بين الأستاذ جعفر السقيد والشاعر مختار دفع الله في قصيدة ( تاني كاتب لي خبارك) و تجربة محمد النصري مع الشاعرة نضال الحاج في قصيدة يا مورودة وأيضاً تجربة الهرم عبدالقيوم الشريف في الغناء بالمفردة الفصيحة كتعامله مع الأديب فاروق جويدة بقصيدة( يا من زرعتي الحب وكان لك الثناء).
وبالحديث عن مشاكل شعراء لهم تجربة تعامل مع مطربي فن الطمبور يتلخص هذا الأمر في نمطية أغنية الطنبور بالأذهان ليصفها البعض بأنها تتغنى للمضامين العاطفية فقط فقد حملوا الحزن أكثر مما يحتمل والتباين الموضوعي مهم للفنون التعبيرية ومنطلقات الكتابة لا حصر لها.
*منذ عهد النعام آدم ورفاقه عانت أغنيات الطمبور من عدم توسيع دائرة الإنتشار وكانت أغانيه حكراً على مناطق الشايقية فقط..فيما تشهد الآن ساحته استقطاباً واسعاً لجميع الأجناس ..كيف تقرأ لنا هذه المفارقات؟
-لا أعتقد أن أغنية الطمبور عانت من محدودية الإنتشار بدليل وجود الأغنية بالإذاعة السودانية بشكل راتب عبر برنامج ربوع السودان الذي يبث مساء كل جمعة وهذا يؤكد مدى إهتمام الإعلام بالفنون الشعبية و الإنتشار على مستوى المناسبات الخاصة أو العامة جعل الأغنية تنافس أغنية الفن الحديث بكل المحافل و صديق أحمد جاب كل مدن السودان و محمد جبارة كذلك.
*ولكن الإنتشار الملاحظ بشكل مكثف لا يتعارض مع الإنتشار المسبق ولكن هذا مفادة للتطور النسبي الذي طرأ على أغنية الطمبور من حيث أساليب الآداء فبعض المطربين أصبحت لهم ميول قومية بأن أعادوا ترتيب الأغنية بإنتاجها وفق مطلوبات قومية تراعي توضيح المعاني بسلامة نطق الحروف و التؤدة في الآداء وإختيار مضامين قومية الأثر و تجربة محمد النصري لا يمكن تجاوزها فقد أحدثت نقلة نوعية وجلبت جمهور جديد من مختلف مناطق السودان وهي حالة مشابهة لحالة الأستاذ عبدالرحيم أرقي و الأستاذ جعفر السقيد فتجاربهم قومية الملمح هذا بجانب أن أغنية الطمبور استجلبت شعراءً من خارج بيئة فن الطمبور وإهتمام الإعلام الرسمي بفن الطمبور أعطى مساحةً أكبر للإنتشار ،فالكل شاهد النجم محمد النصري في برنامج أغاني وأغاني وهذا برنامج له ثقل أدبي وثقافي ولا أظنه تطرق لفن الطمبور كثيرا.
*ما الذي يستفذك للكتابة ؟
دوماً ما يستفز مشاعر الإنسان هو الموقف الإنساني الذي قد يتسبب في عجز الآخر عن التعبير كالصور والمشاهد الحياتية التي تصنع حالة من الآسي والحزن كأن ترى طفل يتيم متشبثاً بسياج أحد الحدائق العامة وهو يطالع أقرانه مع ذويهم ويضج المكان باللهو واللعب وهنا من البديهي أن تستشعر الفقد لدى هذا الطفل ومدى شعوره بقيمة الإحتواء والإنتماء و أنت كشاعر سينتابك ما إنتاب هذا الصبي ولا مفر من الكتابة والتعبير عن هذا الموقف ،هنا يحضرني الموقف الإنساني الذي تبناه الأديب والشاعر حميد في قصيدة(حمتو) ذلك الطفل الذي تحمل مسؤولية الأسرة في سن مبكر
*المرأة في شعر عمار مكي؟
-سؤال جوهري و يمثل محور مهم بالنسبة لي وأن لم أجد السؤال كنت سأتطرق للمرآة كمقتطف
المرآة في كتاباتي تعتبر الشريك الأصيل في كل المتغيرات الحياتية وفي أحيان كثيرة تكون المرآة هي محور الحدث دون الحديث عن الرجل ،ونطالع هذا الجانب في الكتابات التي تتناول المضامين العاطفية لدور المرأة في المجتمع كدور الأم المربية (يا أمي البريدك) أو في قصيدة ( مسدار الغباء) للدكتور محمد بادي ، أنا أخو البت اللكعت ، وهنا يصور عظمة وجوهرية دور الأخت في كل الأسر السودانية ومكانتها الإجتماعية وإبان ثورة ديسمبر المجيدة تناولت الدور الأبرز للمرأة في صناعة التغيير بإحدى قصائدي:
أمرقي على الوطن من بدري وأطلعي من متاريسك
حناجرك بالهتاف جفت تضوي عليك فوانيسك
*في ظل إكتظاظ الساحة الفنية بالكثير من الإنتاج نكاد لا نرى دراسات نقدية في المجال..كيف تتسق هذه المعادلة ؟
-كنت ولا أزال من الذي ينادون بإقامة ورش فنية وندوات مفتوحة تناقش قضية الفن الشعبي بمحتواه الفني والأدبي والثقافي ،وفن الطمبور يحتاج لمثل هذه الفعاليات حتى يتم ابراز المناحي الجمالية فيه وبيان مواضع القصور أو الخلل ليتم تداركها بغية التطور والتحديث ،ولا يوجد فن أو كيان ثقافي يعلو على النقد ولكن النقد البناء فقط الذي يساهم بالإرتقاء بكل الفنون وتقويمها أدبياً وثقافياً.
وعلي صعيد متصل غياب المهرجانات الغنائية في السودان أسهم بشكل مباشر في إضعاف وجود المدارس النقدية والنقد الموضوعي يسير رفقة الفنون كناصح ومفسر لماهيتها ،والوعي الثقافي الجمعي لدي الكثيرين يفتقر لإدراك أهمية النقد ،وهي مساحة عبركم لاستنهاض الهمم و دعوة أهل الشأن برعاية الفنون منذ إنتاجها وتفسيرها وتقويمها حتى يتم تداولها بشكل لائق وجاذب.