قصتي مع محمد جلال هاشم
البروفيسور/ عبده مختـار موسى
في فيديو انتشر في الوسائط قبل أيام، ظهر الدكتور محمد جلال هاشم يتحدث مخاطباً جمهرة من الناس وهو يقول: إنهم لم يسمحوا بإقامة دولة دينية في السودان. وأنه (إذا لم يتم تفكيك الدولة الدينية في السودان فإننا سوف نفكك السودان طوبة طوبة ولن تقوم له قائمة). وقال لو قامت الدولة الدينية في السودان (سوف ننضم للمناطق المحررة ولن نترك الحرب أبداً).
أقول لك يا دكتور إن الدولة الدينية الآن قائمة ــ فالمجتمع السوداني مسلم وإسلامه معتدل، وأن الشعب قاد ثورة ضد النظام السابق لأنهم أصلاً لم يحكموا بالدين الإسلامي ــ بل لم يكن حكمهم إسلامياً ولا ديمقراطياً، وكان فاسداً وفاشلاً وظالماً ومستبداً. وأن الشعب السوداني لن يرضى باستبدال ذلك النظام بنظام آخر يجاهر بالعداء للدين!
وأنبه هنا إلى أن العلمانية ــ وخاصة الليبرالية ــ في الأصل لا تعادي الدين، أي دين، بل دساتيرها تصون حرية الأديان. صحيح أن المجتمعات المسلمة لا ترضى بأن تكون دولتها علمانية، لكن العلمانية في الغرب وجودها مهم وفيه فائدة للإسلام. لأنه في ظل العلمانية في الدول الغربية تنتشر المساجد ويتعبد المسلمون بكل حرية. لكن تخيّـل لو أن أمريكا مثلاً أصبحت دولة دينية تحكمها المسيحية، فهل يجد المسلمون مثل هذه الحريات الدينية؟ المضايقات التي حدثت لبعض المسلمين كانت بسبب العمليات الإرهابية التي قام ويقوم بها المتطرفون باسم الدين الإسلامي ــ (ابتداءً من 11 سبتمبر 2001م).
واضح أن الدكتور محمد جلال هاشم (علم اجتماع) يقود اليوم تياراً متطرفاً، بل هو أشد تطرفاً من العلمانيين أنفسهم، لأننا نقود صراعاً فكرياً وحضارياً مع العلمانية (بشقيها اللبيرالي والشيوعي/ الماركسي)، ولكننا لا نواجه حرباً عسكرية مباشرةً معها، بينما أنت تدعو لتفكيك السودان ما لم يتم تفكيك الدولة الدينية، وأنك سوف تقود حرباً من (المناطق المحررة). فهي إذن دعوة للحرب والفتن وتفكيك السودان، وهل تنادي العلمانية بفرض نفسها على دولة أغلبها مسلمون (متدينون)؟ هذا مع ملاحظة أنه حتى بريطانيا العلمانية عندما استعمرت السودان لأكثر من نصف قرن لم تمس الدين والهوية السودانية! لذلك أقول إنك متطرف أكثر من العلمانيين.
قصتي مع محمد جلال ترجع إلى شهر نوفمبر 2009م عندما التقينا في مؤتمر نظمته جامعة جنوب إفريقيا (UNISA) في بريتوريا عن مستقبل السودان بعد الاستفتاء…(The Future of Sudan to 2011 and Beyond: African Dimensions of Peace, Stability and Justice)
وكانت من ضمن الأوراق ورقة قدمتها المستشرقة كارولاين لوبان Carolyn FluehrــLobban (من جامعة رود آيلاند الأمريكية) والتي جمعتني معها لاحقاً جمعية الدراسات السودانية (SSA) في أمريكا. وكانت ورقتها عن (الشريعة والتحولات الاجتماعية وآفاق الديمقراطية بعد اتفاقية السلام). وعرضت كارولاين شرائح بها صور لشباب سودانيين يرتدون الجلباب السوداني والطواقي وهم يمدون أيديهم اليُمنى المبتورة بحكم حـد الشريعة وقالت: (هذه هي الشريعة في السودان). وعرضت صوراً للرئيس الأسبق نميري ورئيس القضاء الأسبق دفع الله الحاج يوسف وللشيخ الترابي. ثم تعرضت لقانون النظام العام وقضية الصحافية لبنى أحمد حسين.
طلبتُ الفرصة وقلتُ معقباً على ما قدمته، حيث قلتُ لها: (يا دكتورة أنتِ زرتِ الخرطوم وقبلها كنتِ في القاهرة قبل وصولك إلى هنا؛ فهل لاحظتِ أن مظهر النساء في شوارع الخرطوم يختلف عنه في القاهرة؟) وقلتُ لها متسائلا: (أين الشريعة الآن في الخرطوم؟). وقلت لها إن نميري تسرع في تطبيق الشريعة وعمل على تشويه الإسلام، وأن الشريعة ليست هي الحدود فقط…).
تقبلتْ لوبان تعليقي بروح طيبة وكانت موضوعية. غير أن محمد جلال هاشم طلب الفرصة واستدار بالكرسي الدوار نحوي موجها لي الكلام (وكان بالانجليزية طبعاً): (أنا ضد الشريعة، الشريعة تتدخل في حياة الإنسان وتحد من حرية الإنسان، وأنا أكون سعيداً عندما أدخل السودان ولا أجد شريعة …) (كتبتُ ذلك في مقال بعد عودتي لكن لم أجده في أرشيفي). وطلبتُ الفرصة للرد عليه، فلم يعطوني الفرصة، فضغطتُ على الزر وتحدثتُ سريعاً قبل أن يتدخل رئيس اللجنة المنظمة وينبهني إلى ضرورة التحدث بعد موافقة المنصة.
وفي الاستراحة بين الجلسات (البريك) تحلّق حولي مجموعة من السودانيين (من العلمانيين والجنوبيين) في بهو (لوبي) الفندق، وهاجموني واتهموني بأنني أدافع عن نظام الإنقاذ. فقلتُ لهم أنا أكاديمي مستقل وليست لي أية علاقة بالحكومة ولا الجبهة الإسلامية، أنا دافعتُ عن الإسلام الذي تعرض لهجمة شرسة في الجلسة، (كان هنالك كبار البروفيسورات من السودان لكنهم مع الأسف آثروا الصمت!!).
ويبدو أن الشعب السوداني بعد ثورته ضد الإنقاذ يحتاج لثورة جديدة ضد أعداء الدين.
كلمة أخيرة: لقد نبهتُ منذ تشكيل الحكومة الانتقالية إلى ضرورة عدم ربط تشكيل الحكومة وخاصة حكام الولايات بعملية السلام التي اعتبرتُــها مجهولة النهايات! والآن أجدد دعوتي بأن يكون اختيار الحكام مساراً مختلفاً عن مسار السلام، وأن يتم الاختيار على أساس الكفاءة وليس المحاصصة السياسية، وإلا فإن الأزمات الحالية سوف تتصاعد وتتضاعف معها معاناة المواطنين، فينفجرون في ثورة ضد الحكومة الحالية، فإن لصبر المواطن حدوداً، فعناصر الدولة العميقة يضيّقون الخناق على الوضع من هذا المدخل ــ مدخل الغلاء والمعاناة!!