مفقودو فض الاعتصام.. هل من عودة ( تاني)؟

الخرطوم: أحمد طه صديق
لم يكن فض اعتصام القيادة العامة في الثالث من سبتمبر 2019م يمثل حدثاً مأساوياً عادياً ضمن سلسلة الأحداث الدامية التي شهدتها بلادنا في حقب مختلفة، فبشاعة الحدث تكمن في اعمال القتل والقمع وربما الاغتصاب لشباب عزل كانت شعاراتهم الاحتجاجية ضد النظام الاستبدادي البائد هي السلمية ونبذ كل وسائل العنف. وكانت اسقاطات هذا الحدث الغادر علامة فارقة تمد لسانها لإرث شعبنا الطيب الرافض للعنف وسفك الدماء.
وقد اسفر هذا الهجوم البربري عن مقتل العشرات من الشهداء، فيما فُقد بعض الثوار ولم يعودوا حتى الآن رغم مرور حوالى عامين على حادث الاعتداء.
(الإنتباهة) تقلب دفتر المفقودين مستندة الى بعض المصادر عبر هذه المساحة.
مبادرة للبحث عن المفقودين
وبعد فض الاعتصام بخمسة أيام تكونت مبادرة باسم (مفقود) للمساعدة في العثور على المفقودين وما تلاها من احداث، حيث تكونت كمجموعة صغيرة في الفيسبوك، ثم صاروا مجموعة من اللجان. ووفقاً لمؤسس المبادرة يحيى حسين (اندبنت عربية)، استطاعت كشف مصير (45) مفقوداً بعضهم عاد إلى ذويه ووجد ثلاثة منهم كانوا مجهولي الهوية في المشارح. وهناك (22) مازالوا مجهولي المصير، منهم عشرة فقدوا أثناء فض الاعتصام، و (12) فقدوا في أحداث متفرقة ما قبل فض الاعتصام وبعده. فيما تم العثور على أشخاص في أوضاع نفسية متدهورة، وآخرون فاقدون للذاكرة بسبب التعذيب الذي مورس عليهم في المعتقلات، مما أخضعهم للعلاج. وبدأت هذه المبادرة ــ وفق مؤسسها يحيى حسين ــ بعد خمسة أيام من واقعة فض الاعتصام في أعقاب إعلان العديد من الأسر السودانية عن فقد أبنائها من خلال تدوين بلاغات في أقسام الشرطة المختلفة في العاصمة.
فقدان الذاكرة
ويضيف تقرير (الاندبنت) قائلاً: (ووفق ما نقلت المبادرة عن متخصصين فإن حالات الصدمة التي مر بها المفقودون هي التي أدت إلى فقدان الذاكرة لدى بعضهم، وأن هذه الحالات تكررت بين الناجين من فض الاعتصام الذين عثرت عليهم المبادرة). وضمت المبادرة أكثر من (56) ألف عضو على (فيسبوك) يتابعون المنشورات ويسهمون في نشر أخبار المفقودين وصورهم للوصول إلى أماكن وجودهم، كما لدى المبادرة فريق ميداني كان يتجول بشكل مستمر في المستشفيات والمشارح، إذ يقوم بتصوير مجهولي الهوية ووصف المناطق الذين أتوا منها ونشرها بشكل واسع، وهو ما أسهم في العثور على ذويهم بالسرعة المطلوبة. ونشرت مبادرة )مفقود( على (فيسبوك) صوراً لعدد من المفقودين مع معلومات مختصرة تشمل الاسم وتاريخ الفقدان، كما ساعد أعضاء الصفحة في بث مقاطع فيديو تظهر بعض المفقودين أثناء فض الاعتصام. ونشرت قائمة للمفقودين في فض الاعتصام والتظاهرات والمليونيات، وكل الأحداث التي لها علاقة بالثورة.
لجنة للتحقيق
وفي هذه الأثناء أصدر النائب العام السوداني تاج السر علي الحبر في وقت سابق قراراً بإعادة تشكيل وإضافة أعضاء إلى لجنة التحقيق والتحري، لتقصي الحقائق حول الأشخاص المفقودين منذ فض اعتصام القيادة العامة للجيش السوداني في يونيو (حزيران) الماضي. وتختصُّ اللجنة التي يترأسها المحامي الطيب العباسي بالتحري والتحقيق حول اختفاء أشخاصٍ من ساحة الاعتصام أثناء قيامه أو بعد فضّه، وتضم (14) عضواً، إلى جانب ممثلين لمبادرة مفقود وممثلٍ لأسر المفقودين.
مقابر جماعية
ووفقاً لـ (الجزيرة نت) عبر تقرير مطول فإن لجنة قانونية مشكلة من النائب العام في السودان أعلنت عن العثور على مقابر جماعية يرجح أنها تضم جثامين أكثر من (25) شاباً يعتقد أن أعمارهم تتراوح بين (14 ــ 35) عاماً، فقدوا بعد فض اعتصام الثورة السودانية أمام القيادة العامة في الثالث من يونيو 2019م.
وعبرت سمية عثمان ابن عوف، ممثلة أسر المفقودين في اللجنة ووالدة أحد المفقودين واسمه إسماعيل التجاني (25 عاماً)، عبرت عن ثقتها في عمل اللجنة.
وأشارت إلى أن كافة الإجراءات التي تتخذها اللجنة تتم بشفافية. وقالت ممثلة أسر المفقودين إنها وغيرها من ذوي المفقودين لن يشعروا بالراحة والاطمئنان حتى يتم العثور على أبنائهم إن كانوا أحياءً، أو يتسنى لهم التأكد من مطابقة تحاليل الحمض النووي مع الجثامين التي يتم العثور عليها. وشددت على ضرورة أن تأخذ العدالة مجراها والاقتصاص من مرتكبي هذه الجريمة البشعة التي تسببت في جروح كبيرة في نفوس أهالي المفقودين. أما صلاح عبد السيد ابن عم المفقود آدم إسماعيل (35 عاماً)، فيقول إن حجم المأساة التي لحقت بأسرة آدم كبير، ويصعب تصور أي نوع من العقوبة يمكن أن يخفف من تلك المأساة. ووفقاً لبيان صادر عن اللجنة، فقد تم بعد جهد استمر عدة أشهر العثور على مقابر جماعية يعتقد أنها تخص مفقودين تم قتلهم ودفنهم فيها بصورة تتنافى مع الكرامة الإنسانية. وتعهدت اللجنة بالقيام بكل ما يلزم لاستكمال إجراءات النبش وإعادة التشريح، بعد أن تم تحريز الموقع ووضع الحراسة اللازمة عليه لمنع الاقتراب من المنطقة لحين اكتمال الإجراءات، وتوجيه الجهات المختصة باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة.
ووفقاً للبيان فقد قامت اللجنة بزيارة ومراجعة كل المشارح والتحري والتحقيق مع إداراتها.
انتشال جثث من النيل
ويشير تقرير لـ (العربية نت) الى أنه في الثالث من أكتوبر 2019م نصبت اسرة البصيلي سرادق عزاء ابنها المفقود قصي حمدتو البصيلي بحي جبرة جنوب الخرطوم، بعد اربعة أشهر من فقدانه ضمن أكثر من عشرين آخرين فقدوا في عملية فض الاعتصام في يونيو الماضي. وتزامن إعلان وفاة قُصي حمدتو مع الإعلان عن دفن ثلاثة جثث لمفقودين آخرين، لم يتم التعرف على ذويهم بعد حفظ جثثهم في مشرحة بشائر بالخرطوم. إلى ذلك قال يوسف البصيلي إن أسرتهم محظوظة مقارنةً ببقية أسر المفقودين الآخرين، لأنها وجدت جثة ابنها في نهاية الأمر. وكشف أن التقرير الطبي للجثة أوضح أنها انتشلت من غرق في الماء وهي مكبلة الأرجل ومربوط عليها الطوب، ووجدت بها إصابة بطلق ناري من الأمام، وأن الجثة متوفاة قبل الغرق.
وفي هذا الاطار ذكرت (الجزيرة نت) في الخامس من يونيو 2019 (أي بعد يومين من فض الاعتصام) أن لجنة أطباء السودان المركزية قد أعلنت انتشال (40) جثة من نهر النيل، وتزامن إعلانهم مع انتشار فيديو في مواقع التواصل يقول مصوره إنه لمجموعة ترتدي زي قوات الدعم السريع يلقون جثثاً في النيل. ويظهر في الفيديو الذي تم تصويره صباح الثالث من يونيو أحد جسور الخرطوم من مسافة بعيدة، وبالتزامن مع هذا الفيديو تداول الناشطون مقطعاً يظهر سيارة عسكرية تحمل جثمانين ظهرا على ضفة النيل رغم تقييدهما بقوالب أسمنتية. ولم ينتبه أحد آنذاك الى أن الشهيد قصي كان أحدهما، وأنه ــ في الوقت الذي تبحث فيه أسرته وأصدقاؤه عنه ــ كان موجوداً في ثلاجة المشرحة، ولا يعرف عنه أحد شيئاً سوى أنه صاحب الرقم المتسلسل (824.(
والجثث التي عثر عليها في نهر النيل عليها آثار رصاص اخترق الصدر ونفذ من الظهر.
يقول مدير مشرحة أم درمان الدكتور جمال يوسف لـ (الجزيرة نت) إنه تسلم جثمان قصي في الخامس من يونيو الساعة الثانية ظهراً بعد تحويله من قسم شرطة (الدروشاب) شمالي الخرطوم بحري، وبعد التشريح تبين أن سبب الوفاة الإصابة بطلقتي رصاص اخترقت إحداهما صدره، في حين كانت الجثة مقيدة القدمين بقوالب أسمنتية مدهونة بألوان علم السودان القديم. ويضيف الدكتور جمال أنه وبمعاونة مبادرة المفقودين قارنوا بين ملابس قصي التي كان يرتديها آخر مرة شُوهد فيها يوم المجزرة مع الملابس التي كانت على الجثة، فوجودها متشابهة. وتم الاتصال بأسرة قصي التي عادت لذات المشرحة التي بحثت فيها سابقاً دون جدوى، وكان من الصعوبة بمكان أن تتعرّف عليه بسبب التشوهات التي ظهرت على الجثة، إلا أن فحص الحمض النووي الـDNA أظهر التطابق مع والدته. ولم يكن قصي هو المفقود الوحيد الذي عُثر عليه ميتاً في ذات اليوم وذات المكان، بل كان معه الشهيد (ياسر أحمد علي) في سيارة الشرطة مقيداً أيضاً بالكتل الأسمنتية، وجاوره في ثلاجة المشرحة فأصبح صاحب الرقم (825)، لكنه لم يحتفظ بهذا الرقم طويلاً، بعد أن أتت أسرته في اليوم التالي لاستلامه ودفنه. وأصيب أيضاً الشاب العشريني ياسر يوم المجزرة بطلقة في عنقه، وبعدها تم ربطه بالقوالب الأسمنتية، ومن ثم التخلص من جثته بإلقائها في النيل، فجرفه التيار مع قصي إلى منطقة (الإزيرقاب) ومنها تم تسليمهما لاحقاً لمشرحة أم درمان، بعد تدوين بلاغ في نيابة مدينة (الدروشاب) تحت المادة (51) من القانون الجنائي السوداني المتعلقة بالموت في ظروف غامضة. ولاحقاً في المشرحة وجدوا شريحة هاتف وأرقاماً مدونة على ورقة في جيب بنطاله، فاستدلوا بها على عائلته عبر هاتف أحد أصدقائه ممن عرفهم في ميدان الاعتصام، فتعرف عليه هو لاحقاً في المشرحة، وبادر بما لم تفعله الشرطة وأبلغ أسرته بالنبأ الحزين بعد أن وجد أرقامهم في الشريحة.
أخيراً:
هل يعود المفقودون مجدداً أو على الأقل يتم العثور على جثامينهم؟ سؤال حتى الآن رغم تحريات لجنة تحقيق الاعتصام ومرور حوالى عامين مازال تائهاً.